التخطي إلى المحتوى الرئيسي

من الطفل الذي امسكته بيدي؟

كنا جلوس انا وزوجتي واطفالي في الصالة ـ التي تتوسط البيت، في الدور الثاني ـ وكان الوقت قرابة الخامسة عصراً.. مندمجين، أنا وزوجتي، في مشاهدة فيلم امريكي على وشك الانتهاء.. بينما كان محمد ابن التاسعة وأمين ابن السابعة.. كانا مشغولين بلعبة على الايباد..

 وبينما نحن كذلك إذ لمحت بطرف عيني اليسرى طفل صغير، في حوالي الرابعة من العمر، قادما من باب الشقة ـ الذي يبقى مفتوحاً عادةًـ ومباشرةً استدار يمينا ودخل غرفة النوم.

 كان مستعجلا يريد إحضار شيء أو إدراك شيء ما..

  والعجيب أننا لم نَعره اهتماما. لم نلتفت إليه حتى.. 

مرت برهة من الزمن، بعدها خالجني شعور ان الطفل قد تأخر في الداخل، لكن هذا الشعور تلاشى بسرعة، فقد انشغلت بمتابعة نهاية الفيلم التي كانت مثيرة للغاية. 

وما ان انتهينا من مشاهدة الفلم، وأخذت اتمطى كالعادة؛ إذ بزوجتي تخاطب ابني الكبير: 

ـ ادخل فانظر من دخل الغرفة.. لا تدعه يوقظ إبراهيم!

  تذكرت عندها أن الطفل لم يخرج بعد ..!

  كان إبراهيم ذو الثلاثة أعوام نائما، وكنا نظن أن الطفل الذي دخل هو أحد أطفال الجيران الصغار أو أحد أبناء أختي، التي كانت تزورنا بين فترة وأخرى ..

 خرج محمد بعد لحظات من الغرفة وهو يقول:

ـ لا يوجد أحد!

 اندهشنا من كلامه! قالت زوجتي:

ـ أبصر سع الناس! شوف تحت السرير.. يكون مختبئ.

 عاد مجددا:

ـ لا أحد..! سوى إبراهيم فوق السرير.. نائم!

نهضنا الاثنين.. فتشنا الغرفة.. الدولاب، خلف الباب، تحت السرير..

 لم نجد احداً.. ازدادت حيرتنا.. استعذنا بالله من الشيطان الرجيم.. قالت زوجتي تخاطبني: 

ـ هل لمحت أحد يدخل الغرفة؟

ـ نعم. لمحت طفلاً.. أتى مسرعاً.. ودخل الغرفة.

ـ وأنا كذلك. كنت سأظن بأنني متوهمة!

 بقينا حائرين لفترة.. وأخذت أفكر في الأمر.. أحاول أن أجد تفسيراً.. قلت لها:

ـ ربما يكون قد خرج من غير أن نلمحه!

ـ لكن كيف لمحنا دخوله، نحن الاثنين، ولم نلمح خروجه؟!

أخذت أفكر في الامر لمدة طويلة، والوم نفسي لأني لم التفت.. كان الأمر سيستغرق ثانية واحدة فقط.. لماذا لم التفت؟

وبعد تفكير طويل، وبطريقة غير مفهومة.. اقتنعت بأنه ربما كانت هناك قوة خفية لم نشعر بها لكنها هي التي منعتنا من النظر. لكن مفعول هذه القوة لم يدم طويلاً، ولذلك تنبهنا بعد زوالها.. وكأننا تنبهنا فجأة.. ورحنا نبحث عن ذلك الطفل.

  حسنا.. قلت لنفسي.. هناك أشياء كثيرة تحدث في الحياة.. لا تجد لها تفسيراً، هذه إحداها!!

 تقبلنا الأمر على مضض، وإن كانت الهواجس قد أخذت مني كل مأخذ. لكنني لم اجرؤ على مشاركتها مع أحد. أدرى بأن مثل هذه القصص ستخلخل الطمأنينة في البيت ... 

   وهكذا بدأت من تلك الحادثة، اداوم على قراءة القرآن والأذكار، صباحا ومساءاً.

   وبدأت اخفف من شرب الماء اثناء الليل.. حتى لا استيقظ في أوقات متأخرة للذهاب الى الحمام. وان حدث واضطررت الى ذلك؛ فإنني اتصنع حركات عديدة، أزعج بها زوجتي حتى اتأكد من انها قد استيقظت، عندها أقوم بفتح الباب، وانا الهج بالتعاويذ، بصوت مسموع، حتى تختفي كل الكائنات التي تظهر ونحن نائمون..لا اريد ان افاجئها ولا أن أفاجئ نفسي..أنها أوهام الطفولة تقبع في أعماق اللاوعي عندي..

  بقيت على هذه الحالة لفترة، ثم مع مرور الأيام، اطمأننت.. فعدت الى حالتي السابقة، لا قرآن ولا اذكار، استيقظ متى اشاء، واذهب الى الحمام متخففاً من الثياب، او لابسا ما يستر عورتي فقط.. حتى حدثت حادثة غريبة قبل أسبوع.

استيقظت قبل الفجر كالعادة، كانت مثانتي تلح بشدة.. نهضت بسرعة وفتحت باب غرفة النوم واندفعت عبر الصالة ـ التي كانت تبقى مضاءة دائما. ولفت انتباهي وانا امر من جوار باب المطبخ شيء يتحرك في الداخل، كرة بلاستيكية، خفيفة، صفراء منقطة ببقع سوداء. كانت الكرة تطنطن عدة مرات قبل أن تستقر ساكنة..

لم اتفاجأ بشدة، ربما لأني كنت نصف نائم. ومضيت الى الحمام وما ان استقريت هناك حتى بدأت أفكر في الأمر! من الذي حرك الكرة؟ ليس سوى الريح.. من المؤكد أنه قد اندفع فجأة بسبب سرعة فتح باب غرفة النوم.. ولا بد من ان الكرة كانت فوق الطاولة.. مؤكد انها كانت على حافة الطاولة.. فسقطت..هذا هو التفسير الوحيد.

وعدت من الحمام من غير ان التفت الى المطبخ.. لكنني ما ان دخلت غرفة النوم حتى شعرت بالأمان.. زوجتي ترقد في وداعة .. لا يوجد شيء.. لا شيء.. لماذا انت خائف هكذا؟! اخذت أحدث نفسي.. لابد وأنه الهواء.. الدنيا أمان!... ثم كيف تخاف وانت داخل بيتك؟ أين ستجد الأمان إذن؟

 عدت ففتحت الباب ومشيت الى باب المطبخ، لأجد الكرة هناك.. ساكنة مستقرة في مكانها.. أكنت متوقع ان أجد احداً يلعب بها مثلاً؟ ما هذه السخافة!

 أغلقت الباب. وعدت للنوم. وكأن شيئا لم يكن!

لكنني عدت لعادتي السابقة، الاذكار والتعاويذ، وايقاظ زوجتي كلما نويت الذهاب للحمام، ورغم أنى كنت اوقظها بحركات متصنعة كالعادة، إلا انها كانت تعود الى النوم بسرعة الضوء، مما كان يجعل الطفل الذي بداخلي خائفاً باستمرار.. ولم تكن تعلم أنى خائف. ولم أخبرها بالطبع، هل انا مجنون!

 لكن ما حدث معي قبل يومين، كان شيئا غريباً بشكل لا يصدق :

 كنت نائما كالعادة في ذلك الوقت المتأخر من الليل.. عندما استيقظت على بكاء ابراهيم الصغير ذو الثلاثة أعوام، جالساً، منكفئاً، بجوار التسريحة التي تقع في طرف الغرفة بمحاذاة الباب. كانت الغرفة مضاءة بضوء خافت، يأتيها من الصالة..

 نهضت وأخذت أكلمه، واسأله عن سبب بكائه. قال انه وقع من السرير.. فطلبت منه ان يعود الى مرقده. لكنه استمر يبكي بصوت منخفض، ايييييي.. سألته إن كان يريد حليب او ماء؟ فقال انه يريد الحمام. خمنت .. لا بد وانه خائف! طالع لأبوك يا اسد!

   مشيت إليه وامسكته من يده وانهضته.. ومشينا عبر الصالة.. ومررنا من جوار الكرة الصفراء المنقطة، التي ركلها إبراهيم بعيدا.. ثم دخل الحمام فانتظرته بالباب. واخذت انظر بعيدا الى الكرة الصفراء.. هل يمكن ان تتحرك من تلقاء نفسها؟ اخذت اتأملها واتذكر وأفكر... وإذ بإبراهيم يمشي من جواري عائدا الى غرفة النوم.. فتبعته وأغلقت الباب. وعاد الصغير الى فراشة. وبعد دقيقة وجدته قد نام.

 استلقيت على السرير، واخذت أفكر واتخيل واسبح في خيالي بعيدا.. بعيدا.. ولم أدر متى نمت.. لكنني وجدت نفسي فجأة قد استيقظت.. ما الذي أيقظني؟ ولماذا شعرت بأن هناك شخصا ما واقف بجوار السرير، بجواري مباشرة.. واقف يتأملني، وينتظر فقط، ان افتح عيني حتى ينقض علي! ولم اجرؤ على فتح عيني، بقيت هكذا للحظات، ثم قررت ان افتح عيني، وليكن ما يكون..! لكني تفاجأت باني غير قادر على فتحهما.. وكأن فوقهما أطنان من حديد.. حاولت عدت مرات ثم استسلمت.. أدركت ان الواقف بجواري هو من قيد حركتي حتى لا اراه، وسمعت صراخ اطفالي في الغرفة المجاورة، واصابني الهلع عليهم.. ماذا افعل؟ انني اعمى ولا يمكن ان أرى الطريق، واخذت أيقظ زوجتي؛ لكنها كالميتة لا تسمع شيء، اخذت اضربها بكل قوتي لكن بلا فائدة.. ثم سمعت صوتا يأتي من داخلي.. أنك تحلم.. استيقظ.. لا يوجد شيء.. استيقظ!

استيقظت وأنا ألهث، والعرق يتصبب من جبيني، ثم أخذت احمد الله انه كان حلماً. أخذت أكرر الحمد واستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.. فسمعتني زوجتي ونهضت:

ـ هل رأيت حلما سيئاً؟ 

ـ بل كان كابوس..!

ـ استعذ بالله وعد الى النوم!

ـ اعوذ بالله من الشيطان الرجيم! لكن كيف سمعتي صوتي الآن ولم تسمعي إبراهيم؟!

ـ إبراهيم؟!

ـ لم تسمعي إبراهيم..! لقد كان يبكي طوال الليل.. سقط من السرير..!

قالت باستغراب وهي ما تزال شبه نائمة:

ـ وكيف سمعته الى هنا؟

ـ كــيــف؟!!

 التفت إلى المكان الذي نام فيه إبراهيم.. وشهقت.. كان خالياً.. أين إبراهيم؟! تذكرت عندها ان إبراهيم منذ أسبوع وهو ينام مع اخوته في الغرفة المجاورة.. شعرت حينها وكأن آلاف العناكب تمشي على ظهري.. لا اصدق ما يحدث..! هل أنا مجنون أم كنت احلم؟

أعدت اسألها :

ـ ألم ينم عندنا الليلة؟

ـ منذ أسبوع وهو ينام عند اخوته.. هل نسيت؟

ـ لم انسَ.. لكني اسألك عن اليوم.. هل نام اليوم عندنا ام عند اخوته؟

ـ نام عند اخوته، ما بك يا عباس؟!

واختلطت عليّ الأمور.. ولم اعد قادرا على التفكير بشكل واضح... وأول ما خطر ببالي هو الاطمئنان على الأطفال:

ـ تعالي معي.. هيا! الى غرفة الأطفال.. نتفقدهم! 

فتحنا الباب.. والتفت مباشرة إلى مكان الكرة، سألتها:

ـ أين الكرة الصفراء المنقطة؟ كانت هنا!

ـ كرة صفراء؟

لعلها لم تستيقظ تماماً..! لا يمكنها أن تتذكر كل شيء. مشينا حتى وصلنا غرفة الأطفال.. كان إبراهيم نائما بين اخويه.. لم أستطع الوقوف.. جلست.. جسدي كله يرتعش.. وانا انظر الى يدي.. " من ذلك الطفل الذي أمسكته بيدي!؟ "


اقرأ ايضاً :

الغيرة القاتلة : قصة حقيقية

مطارة اب مع اسرته في سيارة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل تنتقم ام تسامح؟

    قال الطبيب النفسي، وهو يبتسم ابتسامة هادئة: ـ خالد..! اريدك ان تحكي لي كل شيء، بالتفصيل..! ـ لا استطيع ان اتذكر كل شيء يا دكتور. ـ حسنا احكي لي ما تستطيع تذكره.! قال خالد: وصلنا اخيراً الى قمة الجبل، لم اكن اصدق اني سأصل إلى هذا الارتفاع. منذ ساعة ونصف ونحن نسير. نتوقف للحظات فقط، نلتقط أنفاسنا، ثم نعاود السير. صديقي الضخم والعملاق عباس هو الوحيد الذي وافق على مرافقتي ، او بالاصح هو من أجمع البقية على أن يرافقني.  قال لي صديقي محمد بان عباس هو الوحيد الذي يستمتع بالصعود الى اعلى الجبل ، وهو من يأخذ الزملاء الجدد ويريهم هذه القمة.     انا يا دكتور اعمل في الكويت، جئت قبل أسبوع. جئت لزيارة أصدقائي؛ لأنني منذ أن تخرجت وحصلت على عمل في الكويت لم ألتق بأحد.   قال الدكتور: ـ اذاً فقد صعدت مع عباس الى قمة الجبل، أهذا ما كنت تقوله؟  ـ نعم. في البداية لم اكن اريد الصعود، لكنني عندما سمعت صديقي العزيز محمد يقول انها شاهقة جداً، ولا احد يستطيع ان يصمد مع عباس في القمة أكثر من عشر دقائق، الكل ينهار.     دفعني ذلك إلى قبول الت...

انقذني يا أخي : مستوحاة من احداث حقيقية

قبل اكثر من 30 عاما، وفي قرية من قرى محافظة تعز . كان الوقت ظهراً، عندما احتشد ابناء القرية؛ يشيعون جنازة امرأة شابة ، لم تتجاوز العشرين من عمرها. حتى إذا وصل المشيعون إلى المجنة، وضعوا النعش بهدوء أمام الباب، وابتعدوا قليلاً. والمجنة مكان يشبه المغارة، تتسع لاكثر من ميت.   اقترب علي مقبل، اخو الفتاة الميتة، و كشف عن وجهها، وأخذ ينظر اليها بتجلد ، نظرة أخيرة. ثم قبّلها على جبهتها وحملها ووضعها بجوار عظام أمه وأبيه في  المجنة .    " بجوارك أبي وأمي، لن تستوحشي ..!"  كان يكلمها كمن هو موقن انها تسمع كلامه وكان موليا ظهره لكل من حضر الدفن، يحاول ان يبدو متجلداً. لكن دمعة متمردة هربت من عينه على حين بغته، فانسحب من داخل المجنة. وبدأ يبني بابها وأقبل الكل يساعده وما أن انتهى حتى التف الناس من حوله يعزوه، ويوصوه بالصبر والاحتساب، ثم انصرفوا به راجعين الى القرية وهم يواسوه طوال الطريق.   وفي العصر أقبل الأخ يرش قليلا من الماء على باب المجنة كي يتماسك الاسمنت مع الحجارة، ثم قرأ الفاتحة وذهب ... كان الحزن قد هده، ومن خلفه كان السكون القاتل الذي يب...