قال الطبيب النفسي، وهو يبتسم ابتسامة هادئة:
ـ خالد..! اريدك ان تحكي لي كل شيء، بالتفصيل..!
ـ لا استطيع ان اتذكر كل شيء يا دكتور.
ـ حسنا احكي لي ما تستطيع تذكره.!
قال خالد:
وصلنا اخيراً الى قمة الجبل، لم اكن اصدق اني سأصل إلى هذا الارتفاع. منذ ساعة ونصف ونحن نسير. نتوقف للحظات فقط، نلتقط أنفاسنا، ثم نعاود السير. صديقي الضخم والعملاق عباس هو الوحيد الذي وافق على مرافقتي ، او بالاصح هو من أجمع البقية على أن يرافقني.
قال لي صديقي محمد بان عباس هو الوحيد الذي يستمتع بالصعود الى اعلى الجبل ، وهو من يأخذ الزملاء الجدد ويريهم هذه القمة.
انا يا دكتور اعمل في الكويت، جئت قبل أسبوع. جئت لزيارة أصدقائي؛ لأنني منذ أن تخرجت وحصلت على عمل في الكويت لم ألتق بأحد.
قال الدكتور:
ـ اذاً فقد صعدت مع عباس الى قمة الجبل، أهذا ما كنت تقوله؟
ـ نعم. في البداية لم اكن اريد الصعود، لكنني عندما سمعت صديقي العزيز محمد يقول انها شاهقة جداً، ولا احد يستطيع ان يصمد مع عباس في القمة أكثر من عشر دقائق، الكل ينهار.
دفعني ذلك إلى قبول التحدي. قلت له إني استطيع أن اصمد أكثر من ذلك؛ فأنا ابن البادية وعشت عمري في الجبال والوديان.
ـ أكمل..!
ـ وصلنا الى قمة الجبل ، القمة ضيقة وتبدو مثل نصف الدائرة ، ينحدر الجبل من الجهة التي اتينا منها ، لكنه في الجهة الأخرى يبدو شديد الانحدار ، بشكل مخيف ، لا يستطيع أحد أن ينظر أسفل قدميه وهو واقف، ومن يريد ان ينظر الى الأسفل فعليه أن يجلس او ينبطح على بطنه ويمد رأسه ، لتصيبه الشهقة من هول الارتفاع.
وصلنا. كان عباس أمامي، وأنا خلفه. لم أجرؤ على الوقوف في الوسط والذي يبدو كنصف دائرة.
بقيت في المنحدر الذي قدمنا منه ، ورغم ان النظر الى الخلف من الجهة التي قدمنا منها شيء مرعب؛ إلا أن الرعب الحقيقي هو النظر من الجهة الامامية،
ما إن وصلنا حتى رايت عباس يلقي بالحقيبة التي على ظهره، يلقي بها على الأرض، ثم جلس وهو ما يزال يحمل العكازة التي كان يعتمد عليها في صعوده الشاق، أخذ يلهث قليلاً، وهو ينظر اليّ ثم قال لي:
ـ تعب ؟ أليس كذلك؟
ـ جداً...
هذا ما استطعت ان انطقه وانا الهث. فاشار لي أن آتي لاجلس بجواره، واخرج من حقيبته الملقاة أمامه قارورتين من الماء المعدني ، ناولني واحدة، بينما شرب الأخرى.
تناولت القارورة وجلست بجواره وانا أحاول التقاط انفاسي ، ثم فتحتها وشربت.
بعد خمس دقائق من اللهاث ، بدأت استعد انفاسي واعود الى طبيعتي.
أخرج عباس خطاف من حقيبته. كان الخطاف ذو اتجاهين متقابلين ، يجمعهما ساق معدنية بطول 40 سم ، وفي نهاية الساق المعدنية حبل بطول ثلاثة أمتار.
قال لي عباس:
ـ هل جوالك معك، اريدك ان تصورني..!
ـ ماذا ، ما الذي ستفعله؟ سالته
ـ قال سأنزل من الجهة الشاهقة بهذا الخطاف ثم سأصعد، واريدك ان تصورني في الهبوط والصعود.
ـ لا يمكن ، انت عملاق وإذا حدث لك شيء فلن استطيع ان انقذك..!
ـ لن يحدث شيء، انا اعملها كل مرة ، مع كل من يصعد معي، وانجح كل مرة.
ـ هل تجيد تسلق الجبال، أنت من متسلقي الجبال أم ماذا ؟ ثم أين الأحزمة التي يلبسها المتسلقين؟
ـ لا تكن جباناً، أنا الذي سأنزل وليس انت.! كل ما عليك فعله، أن تمد يدك وتصور، وانت نائم على بطنك هكذا.
واستلقى على بطنه، وزحف ناحية الهاوية، ومد يده بالهاتف، وهو يعيد كلمة " هكذا .. هكذا "
قلت له حسنا ، لم اكن اريد ان اناقشه، خصوصا أنه بدأ يتكلم وكأنه قد تعصب فجأة.
قلت في نفسي يا الله عديها على خير هذه اليوم..!
قال عباس:
ـ ثم إن هناك خطاطيف موجودة من قبل، وضعها أجانب، من متسلقي الجبال. إذا مددت رأسك ونظرت، ستجدها تتوزع من اعلى الجبل الى الأسفل. انهم جبارين هؤلاء المغامرين الاجانب.
كان يتحدث وهو يلبس القفازات على يده، وأنا أنظر إليه وقد امتلأت بالرهبة مما هو مقدم عليه. قلت :
ـ خطاطيف؟!
ـ هذا اعلى جبل في المدينة ، والخطاطيف موجودة منذ حوالي سنتين ، هذا الجبل مشهور ما بك؟!
نمت على بطني وزحفت باتجاه الحافة، واطلعت براسي لأرى هاوية سحيقة، قلت لعباس :
ـ أين الخطاطيف؟
ـ مُد رأسك قليلاً ما بك؟! أنت نائم على بطنك ولن يصيبك شيء. مُد رأسك قليلا..!
فدفعت بجسدي قليلاً حتى صارت اكتافي بارزة على حافة الجبل، و يداي ممسكتان بالحافة، وأخذت اتلفت يمينا وشمالاً ، وأنا أقول :
ـ اين هذه الخطاطيف؟ لا تفكر بالنزول..! لا توجد..
لم اكمل كلامي، اذ شعرت بصوت جهوري غاضب ، لم استطع ان اتبين فحواه لأنه ترافق مع حركة عند قدمي.
حاولت ان التفت لارى واسمع ما يقوله عباس، لكن الوقت كان قد فات، لان عباس كان قد ادخل الخطاف الذي كان يحمله بيده بين ساقي، ورفع رجلي بسرعة إلى الأعلى.
ـ ما هذا يا عباس ، ارجوك دع المزاح..!
كنت أتكلم معه وانا اتكأ على راحتي يدي. واحاول ان استدر، لكنه كان يثني الساق الحديدية التي تمسك بساقي ويديرها في الجهة الأخرى حتى يمنعني من الاستدارة.
ـ أرجوك يا عباس، دع المزاح ، انت تؤلمني، ارجوك..!
ـ ليس قبل أن ترى الخطاطيف التي في الجبل، وأخذ يدفعني باتجاه الهاوية.
ـ ارجوك ، ارجوك..!
كنت أحاول النظر ، لكنني كنت مرعوباً ، ولم أستطع أن أرى شيئا.
ـ هل رأيت الخطاطيف ؟
ـ لا توجد أية خطاطيف يا عباس..!
ـ أنت تكذب ، ولهذا ساعاقبك.
وأخذ يدفعني اكثر، وانا ارجوه واتوسل اليه، لكنه يصر أن أتكلم بالحقيقة.
لم اعد اعرف كيف اتصرف..؟!
هل وقعت فجأة في يد انسان مريض او مجنون؟! كان قبل قليل يبدو طبيعيا..! كيف اتصرف؟
خطر لي لحظتها ان اجاريه بالكلام، قلت له :
ـ نعم نعم ، الأن شاهدت الخطاطيف، شاهدتها ، ارجوك اتركني الآن...!
قال لي:
ـ أنت كذاب. لا توجد أية خطاطيف؛ و لأنك كذبت سأعاقبك..!
اخذت يداي ترتعشان من ثقل وزني المنصب عليهما ، وأوشكت على البكاء، لكني تماسكت.
ـ يا عباس ارجوك ، يكفي مزاحاً، ارجوك ابوس رجلك..!
ـ هل تحسب انك ستعود سالما من هذا المكان ، امامك خيارين ؛ اما ان تعود مخنثا أو لا تعود.
ودفع بجسدي نحو الهاوية هذه المرة بقوة اكبر، ما جعلني أقع على صدري، وانا ، وانا ابكي من الهلع والتعب. واتوسل اليه ان يكف عن مزاحه الثقيل.
أخذت أكرر كلمة ارجوك ارجوك ، بينما كان هو يضحك وهو يستمتع بسادية لم أرى مثلها من قبل، ثم قال :
ـ قل انا مخنوث ، انا مركبة..!
قلت ذلك من غير تردد.
ـ قل انا مركبة عباس ، يركبني كل يوم..!
كان يريد أن يهينني، وكنت بين خيارين؛ ان اتركه يهينني وانتقم منه فيما بعد أو أن ارفض الانصياع ويلقي بي في الهاوية.
بالطبع كنت غير متأكد انه سيرميني من الهاوية ، لكنني أيضا كنت لا اريد ان اغامر باحتمالية ذلك. ولذلك فقد قلت كل ما أراد مني قوله.
قلت ذلك وانا ابكي بالطبع. كان هناك كلاماً آخر ، لا أريد أن أقوله، ولا أتذكر معظمه.
لكنه كان كلاماً لن تسامح نفسك على قوله يوما من الأيام. وحتما لن تغفر لمن اجبرك على قوله. وان كان يظن انه يمزح..! او هذا ما قاله عندما تركني.
قال الدكتور:
ـ هل قال بانه يمزح؟
ـ قال بأن هذا المقلب كان معداً لي، بالاتفاق مع محمد. ثم اخذ يعتذر عندما تركني.
وقتها كنت مرهقاً. بي رغبة ان ادفعه من حافة الجبل. الا انني خفت ان لا استطيع دفعه او ان يدفعني هو.
كنت حتى تلك الساعة غير متأكد من قدراته العقلية. فمن يقدم على ما أقدم عليه لا يمكن ان يكون عاقلاً تماماً. ولذلك فقد حاولت أن اضبط اعصابي، وانا أضمر الانتقام منه ومن محمد لوقت لاحق.
اما عباس فقد أخذ يلتقط لي الصور وانا منكفئ على نفسي ، وجرحاً نرجسيا قد استحكم بكل كياني.
واخذ يرسل بالصور الى محمد، عبر الواتس اب ، ويخبره، وهو يضحك، كيف كنت منهاراً ولم استطع ان اصمد لمدة دقيقة واحدة.
هكذا كان يسجل له كل شيء وهو يضحك !
ـ وماذا فعلت بعد ذلك؟ بدأت تخطط للانتقام ، أليس كذلك؟ سأله الطبيب
ـ الانتقام ، انا ؟ بالطبع لا يا دكتور، لو انني خططت للانتقام لكنت قد تعافيت من هذه الكوابيس..!
ـ من قال لك ان الانتقام يشفى من الألم؟! لا تظن ان المنتقم يُشفى من ألمه. الانتقام يبقى فعل الاذى في مكانه. وكأنك تقول لنفسك ، هذه هي العدالة ، فعل بي هذا، وفعلت به هذا. لكنك تبقى معترفا بالضرر الذي لحق بك، ومعترفا بالضرر الذي الحقته به.
كما أن العجز عن الانتقام يُبقى الانسان اسيراً لمشاعر الرغبة في الانتقام. وكلما شعر أنه غير قادر على الفعل ، يزداد تحطماً و هشاشة من الداخل. يصبح غير راض عن نفسه طيلة الوقت ، هذا العجز يبقيك في ألم دائم.
ـ وما الحل برأيك يا دكتور؟
ـ الحل هو التسامح
ـ كيف تسامح من تعدى عليك وداس قدس اقداسك؟! هكذا من غير سبب، سوى أنه يستطيع. لأنك فقط لن ترد له الدين ، لانك ضعيف مضى يدوس على كرامتك ويمشي في طريقه، وكأنه لم يفعل شيئا..!
ـ أنا لا أقول أن الامر سهل ، لكن ان فكرت في العبئ الذي تحمله فوق ظهرك ، لو فكرت بالألم الذي تضيفه الى نفسك ، ربما ستبدأ بالتفكير في المسامحة، ليس من أجل من تعدى على كرامتك؛ بل من اجل نفسك، من اجل ان تعيش حياة أجمل ...
خرج خالد من غرفة الطبيب، لكنه وجد صديقه العملاق عباس في صالة الانتظار منكمشا على نفسه ، وبجواره والدته ، اقترب منها خالد وسألها :
ـ ما الذي اتى بك يا خالة ؟ هل عباس بخير؟
التفتت والدة عباس. تنهدت ، ثم نظرت الى ابنها وهي تقول:
ـ منذ عاد الى المنزل ونحن لا نعلم ما به، اختفى لمدة أسبوع ، بحثنا عنه في كل مكان ، وفجأة ظهر امام الباب، لا ندري حتى من اتى به ، كان جالسا بجوار الباب، لم يطرق حتى الباب. ربما كان جالسا منذ ساعة او اكثر، ربما كان جالسا هناك طيلة الليل، المهم شاهده ابوه عندما كان يهم بالخروج الى العمل، ولكن كما ترى، لم ينطق بحرف واحد، لا يتكلم ، لا يأكل ، لا يشرب ، لا ينام ، فقط ما نوجهه به يفعله..!
ـ ومتى حدثت تلك الحادثة ، اقصد اختفائه عن البيت
ـ منذ حوالي شهر
ـ لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
اخذت الام تبكي حال ابنها، كان خالد يريد ان يقول لها ان الله قد انتقم له ، لكنه دعى له بالشفاء ومضى. لكنه في الدرج قابل أيضا صديقه محمد وابوه برفقته، يا لها من مصادفة، ان يأتيان في يوم واحد، وقف وسلم على أبو محمد، بينما محمد كان مصابا بنفس المرض الذي أصاب عباس، يا لها من صدفة..!
حكى له والد محمد كيف اختفى محمد فجأة قبل نصف شهر ، وبعد أسبوع ظهر فجأة أمام الباب، " يا الله " لقد أصابه ما أصاب عباس!" هكذا أظهر خالد اندهاشه واسفه، ثم دعا له بالشفاء وانصرف...!
في الطريق، كان خالد مسروراً، لم يكن يتوقع انه سيراهم يتعالجون عند نفس الطبيب في نفس اليوم، صحيح انه كان يعلم أنهم سيقضون بقية حياتهم في عيادات الأطباء النفسانيين، لكنه لم يكن يتوقع أن تؤتي الغرفة البيضاء ثمارها بهذه السرعة..!
أخذ يحدث نفسه:
أسبوع واحد فقط، غرفة بيضاء ، اكل ابيض، شرب ابيض، ثياب بيضاء، كل شيء ابيض. وبعدها .. بوووم، يموت الدماغ وتختفي الذات. تصبح جثة فقط. انه اختراع إيراني، التعذيب النفسي باستخدام الغرفة البيضاء.لكن ذلك يحدث بعد أشهر ، أما بعد أسبوع فهذه تعتبر مزحة، أليس كذلك؟!
أليس ما قاموا به معك يعتبر مزحة ، ربما يتحسنون بعد خمس سنوات او عشر ، من يدري؟ لكنهما إذا تحسنا؛ لن يتذكرا من الفاعل؟ لأنهما سيكونان بقدرات دماغية متضررة ، هههههه.
" الانتقام لا يشفى " ..! صدقت.. ولا التسامح يشفي يا دكتور..!
………………..
اقرأ ايضاً :
قصة ولا اروع..سلمت اناملك
ردحذفاول مرة اسمع بالغرفة البيضاء، كنت اسمع ان هناك تعذيب بالالوان ، لكني لم اسمع بالغرفة البيضاء ابداً
ردحذفجمييلة جدا ومعبرة...لكن تصرفه خطأ
ردحذف