قبل اكثر من 30 عاما، وفي قرية من قرى محافظة تعز. كان الوقت ظهراً، عندما احتشد ابناء القرية؛ يشيعون جنازة امرأة شابة ، لم تتجاوز العشرين من عمرها.
حتى إذا وصل المشيعون إلى المجنة، وضعوا النعش بهدوء أمام الباب، وابتعدوا قليلاً.
والمجنة مكان يشبه المغارة، تتسع لاكثر من ميت.
اقترب علي مقبل، اخو الفتاة الميتة، و كشف عن وجهها، وأخذ ينظر اليها بتجلد ، نظرة أخيرة.
ثم قبّلها على جبهتها وحملها ووضعها بجوار عظام أمه وأبيه في المجنة .
كان يكلمها كمن هو موقن انها تسمع كلامه وكان موليا ظهره لكل من حضر الدفن، يحاول ان يبدو متجلداً. لكن دمعة متمردة هربت من عينه على حين بغته، فانسحب من داخل المجنة.
وبدأ يبني بابها وأقبل الكل يساعده وما أن انتهى حتى التف الناس من حوله يعزوه، ويوصوه بالصبر والاحتساب، ثم انصرفوا به راجعين الى القرية وهم يواسوه طوال الطريق.
وفي العصر أقبل الأخ يرش قليلا من الماء على باب المجنة كي يتماسك الاسمنت مع الحجارة، ثم قرأ الفاتحة وذهب ...
كان الحزن قد هده، ومن خلفه كان السكون القاتل الذي يبدو معه المكان أشد وحشة ...
وفي المساء لم يستطع الأخ أن ينام إلا متأخرا، ثم ما لبث أن استيقظ بعد ساعة فزعاً، سألته زوجته التي ايقظتها حركته العنيفة، ما الذي أفزعك؟ فأجابها بأنه رأى أخته في المنام تخبره بأنها لم تمت، وتعاتبه كيف استعجل دفنها قبل أن يتأكد من موتها؟
كان العرق يتصبب منه، فأخذت زوجته تهدئه وتطلب منه أن يستعيذ بالله من الشيطان، وأن يسلم بأمر الله، وأنّ هذا الحلم ليس الا تعبيرا عن حبه لأخته ورفضه التصديق بموتها ...
استعاذ الرجل، ونهض وتوضأ وقام يصلي ويدعو لها.
وفي اليوم التالي سافر الأخ الى مدينه تعز، كان يعاني من حمّة شديدة، وألم في كل مفاصله؛ فذهب الى الطبيب، وفي الليل كانت حرارته قد هدأت.
وبفعل العلاج الذي تناوله والسهر المتواصل انطلق الرجل في سبات عميق، لكنه استيقظ بعد ثلاث ساعات مرعوبا، لقد راوده نفس الحلم "أنقذني قبل أن أموت"
صوت أخته كان واضحا، يتردد صداه بلا توقف، يكاد يسمع صراخها، دعاءها، رجاءها، أناتها، بكائها، ثم عتابها " لماذا دفنتني وأنا حية؟ "
جلس الأخ وهو لا يدري ماذا يفعل، أيعود إلى القرية ويفتح المجنة؟ وإذا عاد وفتحها ووجد أخته كما تركها، ماذا سيقول عنه الناس؟ ربما أصبح حديث أهل القرية لسنوات، وخطرت في رأسه فكره واستغرب كيف راحت عن باله، سيذهب إلى الصوفي العارف بالله، ويسأله، وسيرشده الصوفي إلى العمل الصائب بالتأكيد ...
واستغرق الأخ في تفكيره ولم يجد نفسه إلا وهو يستيقظ من الحر، الشمس تملا المكان " يا الله لقد تأخرت! كم الساعة؟ لا بد وأنها الثامنة او التاسعة ".
نهض الأخ فزعاً ، كمن فاته أمراً مهماً ، ثم تذكر بأنه كان قد عقد العزم على الذهاب إلى الصوفي العارف بالله ، يسأله عن الرؤيا ، لكنه كان جائعا فذهب الى المطعم لتناول فطوره ، ثم إلى السوق لشراء شيء للصوفي ، لا يريد ان يذهب خالي اليدين ، وفي السوق وجد الناس متحلقة حول رجل ذو هيبة فلما اقترب منهم ، وجد أنه الصوفي ذاته ، الذي كان يزمع الذهاب إليه.
قال في نفسه : وحاجة من قريب ! ، وأقبل يخترق الزحام ، حتى وصل إلى أمام الصوفي ، ودنى يقبل يده ، فرحب به الصوفي ، وأجلسه بجواره ...أخذ علي مقبل يتحدث بانفعال شديد ويقول :
ـ المعذرة منك يا شيخ! لكن الأمر مهم ولا أدري ماذا أفعل؛ هل يجوز يا شيخ أن افتح المجنة على الميتين لمجرد الشك؟
صمت قليلا ثم أردف:
ـ اشك بأن أختي ما تزال حية، دفنتها قبل أمس، لكنها تأتيني كل ليلة في المنام، وتخبرني بأنها ما تزال حية!
رد عليه الصوفي بصوت هادئ: أختك ما تزال حية؛ لكن أشك بأنك ستدركها!
صعق علي مقبل من كلام الصوفي، بينما علت الدهشة كل الحضور، ومرت لحظات وعلي مقبل عاجز عن ابداء أية ردة فعل، وفجأة نهض وانطلق من أمام الصوفي يشق الزحام، حتى من غير أن يشكره.
انطلق على عجل حتى وصل إلى الفرزة، يبحث عن سيارة، لم يجد شيئا، لقد انطلقت السيارات قبل أربع ساعات، والفرزة خالية، ولن تصل سيارات قادمة من القرية إلا بعد ساعة تقريباً؛ ذلك أن السيارات تستغرق قرابة خمس ساعات بين القرية والمدينة.
مرت الساعة كأنها دهور طويلة، ومع أول سيارة، أخذ علي مقبل يفاوض السائق الذي رفض الرجوع إلى القرية، لأنه لابد أن ينجز بعض المهام، ويشتري بعض الأشياء.
أخرج علي مقبل مبلغا من النقود يعادل ضعف المبلغ الذي يحصل عليه وأعطاه إياه، فأخذ السائق يعده، بينما كان علي مقبل يواصل كلامه:
أرجوك إنها مسالة حياة أو موت.
وافق السائق، وانطلقت السيارة تنهب الطريق، وأخذ السائق يتحدث عن صعوبة الطريق ثم عن فساد المسؤولين والمستقبل السيئ الذي ينتظر البلاد، بينما لم يكن علي مقبل يسمع شيئا، سوى صراخ اخته الذي يدوي في أعماقه.
كان الحلم الذي رآه يتكرر أمام عينيه، وفي منتصف الطريق تقريباً، التفت الأخ الى السائق الذي كان يتكلم بلا توقف " لقد ماتت الآن ".
اندهش السائق، الذي أدرك أن الرجل لم يكن يسمع شيئا مما يقول، فصمت قليلاً، ثم أخذ يستوضح منه عن أي شيء يتحدث، فأخبره بأنه كان يريد ان يدرك أخته التي دفنها قبل يومين في المجنة.
اندهش السائق من كلامه، فصمت كمن يفكر، ثم قال:
ـ وهل كنت تظن أنها ما تزال حية؟
ـ كانت ما تزال حية حتى قبل قليل. لقد توقف صراخها الذي كان يتردد في أعماقي، سكت قبل قليل.
ـ يا رجل ...يا رجل! لقد ماتت منذ يومين، ودفنت، وشبعت موتا، يرحمها الله، لا تبحث عن شيء يا أخي سوى طلب المغفرة لها، لا يجوز أن تضل معلقا بوهم كاذب، أنت انسان مؤمن ...
ـ أرجوك قُد وانت ساكت! لا أريد نصائح.
ـ حسنا.. حسنا.. أنت حزين و ...
ـ أرجوك اسكت وأسرع.. أرجوك أسرع!
انطلقت السيارة تقطع المسافة الباقية بسرعة غير مألوفة، حتى إذا وصلوا الى السوق؛ قفز الأخ من السيارة وأتجه إلى أحد الدكاكين، اشترى منه معولاً، وجرى يهرول باتجاه مكان المجنة.
كان الوقت قرابة الرابعة والنصف عصراً ، وصل الأخ الى باب المجنة وهو يلهث وأخذ يضرب باب المجنة بالمعول ، يضرب وهو يصرخ ويبكي ويسب ويلعن نفسه ، ويطلب من الله أن ينقذها ، أن يبقيها حية!
كانت عواطفه مشتتة ، يتعلق بالرجاء حينا ويفقده حينا ، يجتاحه الأمل حيناً ويتسرب منه سريعا ، وكانت قواه خائرة من شدة القلق والحزن.
واستمر يضرب طبقات الاسمنت بين الحجارة ، حتى تهاوت الأحجار، البعض سقط داخل المجنة والكثير الى خارجها .
واصل الهدم حتى آخر حجر ، رافضا أن ينظر إلى الداخل قبل ذلك ، ثم مدَّ رأسه والتفت يمينا حيث أرقدها ، فصعق و تسمر مكانه.!
ثم أرتد خارج المجنة و صاح صيحة عظيمة :
" يا الله! يا الله! يا الله! "
وترددت أصداء صيحته على جنبات الجبال القريبة، وسمعته النساء اللاتي عند البئر، وفي الحقول القريبة، وانتشر الخبر: " إنه صياح على مقبل عند المجنة "
بينما أخذ علي مقبل يمسك برأسه، ويشد شعره، ثم برك على ركبتيه، يبكي ..
في الداخل كانت امرأة جالسة، متخشبة، ممدودة الساقين، مفتوحة العينين، عارية الجسد، يديها ممسكتان بما تبقى من شعر رأسها، الذي تناثر من حولها وفوق الكفن.
بينما آثار دماء تغطي ساعدها الايمن، وهناك بقع من الدم فوق الكفن وعلى بعض العظام المتكسرة ..
الأمر الذي كان يختصر كل ما يمكن أن يقال.
لقد استيقظت المرأة فوجدت نفسها في مكان مظلم، ولعلها قد بقيت للحظات قليلة، تتساءل أهي مصابة بالعمى؟ أم أنه المكان الذي يلفه الظلام؟ ولماذا عطر "جنة النعيم" يملئ المكان!؟
مدت يدها تتحسس المكان لتجد عظاما إلى جوارها ، فتفزع وتنهض جالسة ، تمد يديها إلى الأمام فتصطدم بشيء صلب وخشن، جدار المجنة، وتمدهما الى الخلف..كذلك ، والى أعلى فوق رأسها كذلك ..
تدرك عندها أنها في المجنة ، تصاب بالذعر ، وتبدأ بالصراخ ، صراخ متواصل ، حتى تتعب فتهدئ للحظات..
تحاول عندها دفع الأحجار التي أمامها بيديها ، برجليها ، عبثا تحاول ، فتنادي أخوها ليس لها سواه، تنادي وتكرر النداء مرات ومرات..
تتوسل إليه أن يأتي لينقذها ، ثم تعاود الصراخ ، والبكاء ، حتى تتعب..
تستغيث بالله وترجوه، وتتوسل إليه..!
ثم تصرخ من جديد وهي تمسك العظام التي كانت بجوارها وتضرب بها في كل مكان.
لا تدري أين اتجاه باب المجنة، لكنها تواصل الضرب، حتى تُدمي يدها، تخترقها العظام المفتتة، ثم تعاود الصراخ، كل ما حولها يدفعها إلى الجنون، فتأخذ في شد شعرها.
عيناها مفتوحتان تنظران أمامها، إلى الظلام الحالك الممتد إلى اللانهاية، فلا ترى سوى الموت، يقبل من بعيد، أسود ومخيف ..!!
المكان مظلم، والجو بارد، وبجوارها عظام أموات قبلها، ستتبعهم قريبا.
وليل طويل.. طويل..!
ورائحة العطر التي كانت على الكفن قد امتزجت برائحة التربة، تربة احتفظت بعفونة كل الأموات الذين سبقوها، ولا هواء إلا القليل، تشعر بالاختناق كل لحظة، لكنها لا تموت!
..
تمالك الأخ نفسه عندما سمع أصوات نفرٍ من أهل القرية مقبلون نحوه، فنهض على قدميه ومد يده إلى وسط المجنة وأخذ يحاول ستر جسد أخته العاري، ولفها بالكفن، تاركا إياها على حالتها تلك، جالسة!
وصل أول صبيان من أهالي القرية وبقيا متسمرين على باب المجنة، يحاولان تخيل ما حدث، وهما ينظران جسد امرأة جالسة ملفوفة بالكفن وعليه بقع من الدم، وشعرها الاسود متناثر من حولها على الارض، لكنهما ما لبثا أن ركضا عائدين إلى القرية، يخبرون الجميع بما رأوه.
ثم أقبل ثلاثة رجال آخرين، ثم اثنان، ثم أربعة، توارد الناس، الفضول كاد يقتلهم.
الكل يسأل: " ماذا هناك؟ دعني أرى! "
وما أن يبصر حتى يرتد من فوره للخلف وهو يردد مثل الباقين : لا حول ولا قوة إلا بالله
وأقبلت امرأة مسنة، مشهورة في القرية برجاحة عقلها وحكمتها، وازاحت الجميع "افسحوا الطريق! ابتعدوا! ".
فافسحوا لها الطريق، حوقلت كالبقية، ثم طلبت منهم الابتعاد عن الباب "انصرفوا بعيداً! اريد ان أكشف عنها " قالت بصوت حازم.
استجاب الجميع، فمدت يدها وازاحت الكفن وما أن رأتها بتلك الحالة المفزعة، حتى شهقت، وأخذت تبكي بحرقة، وعادت تغطيها كما كانت، ثم أخرجت رأسها، وأخذت تسأل عن أخ الفتاة، فلما رأته طلبت منه أن يساعدها كي ترقدها كما كانت، فأرقداها على شقها الأيمن في وضعية الجلوس التي كانت عليها، إذ لم يستطيعا تمديدها.
أخذت العجوز تقول "كانت لا تزال حية حتى وقت قريب، ربما خمس ساعات "، لكن الأخ كان عاجزاً عن الكلام.
التف الناس حول العجوز يسألونها عما رأت، لأنه لم يجرؤ أحد على إزاحة الكفن ليرى، فأخذت تخبرهم والدموع تتساقط من عينيها .
ثم تركتهم واقتربت من الأخ الذي كان منكفئا على نفسه يبكي وانحنت تسأله:
ـ يا ابني! كيف عرفت أنها ما تزال على قيد الحياة؟
فلم يجبها، فأخذت تهزه من كتفه، وتعيد عليه السؤال، فرفع نظره اليها، ثم عاد لحالته السابقة، وأخذ يتكلم بصوت متقطع:
ـ كانت تأتيني في المنام .. أخبرني الصوفي .. لكنها كانت حية ..كانت ما تزال حية وأخذ يبكي بصوت عالي، وينشج، وجسمه كله يرتعش، كان يتكلم بكلام غير مفهوم من شدة البكاء، وكان الكل صامتين مذهولين!
قال أحدهم: يا الله! ..كم تعذبت هذه المرأة؟!
وقال آخر: لعلها الى الجنة!
وآخر: نعم هي في الجنة بلا شك!
وأقبلوا على أخيها يحاولون تهدئته وهو منكفئ على وجهه يبكي ولا يسمع أحداً.
أشارت إليهم العجوز قائلة: اتركوه! دعوه وشأنه! فمصيبته كبيرة ..كبيرة!
اقرأ ايضاً :
تعليقات
إرسال تعليق