التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مطاردة : قصة اب مع اسرته في سيارة

 



الساعة حوالي العاشرة صباحاً، وانا في بنك اليمن الدولي ـ فرع الحصبة ـ حاملاً معي أربعة شيكات، موقّعة جاهزة، ينقصها توقيع مدير الفرع.

 كنت أتوقع ان يقابلني بالرفض؛ نظرا لان المبلغ كبير نوعاً ما، أربعة ملايين.. لكنني فوجئت بتعاونه.. وافق على صرف ثلاثة شيكات من الأربعة. بصراحة لم أتوقع منه أكثر من ذلك.

 شكرته على تعاونه معي، لكنني وقبل ان اخرج من مكتبه تذكرت حجم النقود التي سأحملها، فعدت اليه ارجوه ان تكون فئة العملة النقدية من ذوات الألف ريال، أخبرته ان وضع البلاد غير آمن وان مثل هذا المبلغ ـ إذا ما كانت الفئة النقدية أقل من ذلك ـ سيبدو كبيراً وملفتاً داخل الكيس.. لكنه اعتذر:

ـ" ثُلث المبلغ فقط أبو خمسمائة، لا تكن طماع! اعطيناك هذا المبلغ وما عندنا سيولة "

 ـ "لكن يا مدير كما تعلم.. سأكون عرضة للخطر وانت خير من يقدر الظروف!"

ـ " ولماذا؟ ألم تحضر أحداً معك؟ انت غلطان! هل معك سلاح؟ هل معك آلي او مسدس؟"

ـ " لا ".. فقال لي بنبرة جادة تنم عن روح النصيحة:

ـ " خذ الفلوس ولا تتوقف في أي مكان! "


   عندها تعاظم خوفي، وشعرت بالندم يجتاحني فجأة، لكنني توكلت على الله، وذهبت اصرف الشيكات الثلاثة التي وقع عليها، استلمت النقود.. عددتها بالنظر سريعاً.. كنت خائفا من كل من كان حولي.. واتجهت إلى السيارة.. لكن عند خروجي لاحظت ان أحد حراس البنك الذي كان يهش لي عند دخولي، كان يهش ايضاً عند الخروج.. وهو ينظر إلى الكيس، ولا أدرى لماذا كان قلبي منقبض منه.   

  مشيت سريعاً إلى السيارة، حيث كانت زوجتي واطفالي في انتظاري، ناولت زوجتي كيس النقود، وأمرتها ان تخفيه، وقفزت خلف مقود السيارة، وفي ذهني هدف واحد، هو الانطلاق بأقصى سرعة ممكنة. وبعد ان تحركت، حانت مني التفاته إلى مكان وقوف الحارس ـ عبر مرآة السيارة ـ فوجدته ليس في مكانه، بل بالقرب من السيارة السوداء التي كانت واقفة بجوار سيارتي.. يتحدث اليها ويشير إلى سيارتي، لم أكن متأكدا أكان يشير إلى سيارتي أو إلى سيارة أخرى، لكن السيارة السوداء بدأت بالتحرك... هل كانت هذه مصادفة؟ أم أن حارس البنك ـ الذي بالتأكيد قد رآني، وانا انقل رزم النقود إلى الكيس ـ يكون قد أخبرهم بما أحمل من نقود؟ إلا يكون متآمراً معهم؟

  كانت هذه مجرد شكوك، وكنت أريد ان اتأكد. هل هذه السيارة التي تسرع كلما أسرعت، هل تحاول اللحاق بي وسلبي ما أحمل من نقود أم أنها مجرد أوهام؟ أخذت أسرع بشكل غير مألوف، وكان أطفالي مسرورين لان سيارتنا تسبق كل السيارات، لكن زوجتي سألتني بصوت منقبض:

ـ " عباس.. لماذا تسرع هكذا؟ " ثم لاحظت أني انظر إلى المرآة كل خمس ثوان.

ـ " هل هناك من يلاحقنا؟"، لكنني لم أجبها، فأخذت تعيد عليّ الأسئلة. أخبرتها أن تهدأ وان لا تقلق.. لأنها مجرد شكوك.

ـ " هل هي السيارة السوداء؟"

ـ "نعم"

ـ" وكيف عرفت؟"

ـ " لمحت حارس البنك يتكلم معهم، ويشير إلى سيارتنا"

 انتقل القلق مباشرة إلى زوجتي، لكن بالطبع بشكل أكثر ضخامة، أخذت زوجتي من ساعتها تستغيث " يا الله يا الله.. يا لطيف يا الله!"

   اما انا فقد اسرعت أكثر وأكثر، أصبحت الآن اسوق بسرعة جنونية بالمقارنة بقيادتي العادية، تجاوزت سيارتين، وحانت مني التفاتة إلى السيارة التي اقلقتني، ولكن ويا للمفاجأة! لقد انحرفت باتجاه اليمين، ودخلت شارعاً فرعياً.. يا الله لم اصدق. 

   كم انا شكاك؟! لقد ظننت أنها تطاردني. أخذت اضحك بشكل هستيري.. وأخذت زوجتي تضحك معي. اما الأطفال الذين امتزجت مشاعر الخوف لديهم بخيبة الأمل في والدهم ـ لأنهم بالطبع كانوا يعدونني بطل الأبطال ـ فقد بقوا صامتين لفترة، ثم أخذوا يضحكون لضحكنا.. قال ابني محمد بحماس

ـ " يا بابا.. انت كنت خائف ورجعت تضحك هه؟؟"

ـ " خائف؟ انا كنت خائف! انظري ابنك ماذا يقول عن ابيه! انا لم أكن خائف.. ابوك ما يعرف الخوف يا محمد، انا كنت خائف عليكم وعلى الفلوس.. لم أكن خائف على نفسي، فهمت؟"

ـ " يا بابا.. كانوا يطاردوننا؟"

ـ " لم يكونوا يطاردوننا يا محمد.. انا فقط ظننت انهم يطاردوننا بس الحمد لله طلع ظني في غير محله"

ـ " طيب يا بابا لو كانوا يطاردوننا.. كيف كنا سنعمل؟ ها؟ ".

 هذا الولد خياله واسع، واسئلته ما تعجبني، من زمان. التفت اليه فوجدته واقفاً:

ـ " لماذا لا تقعد في مكانك، ألم تتعلم من المرة السابقة.. ماذا لو اوقفت السيارة فجأة؟ ستطير من عندك إلى عندي.. انت لا تتعلم ابداً، اجلس ساكت!"

فجلس وسكت، واخذت أفكر في سؤاله، بالفعل ماذا كنت سأصنع لو كانوا يطاردوننا؟ ... تأتيك سيارة، لا تدري من أين، مليئة بأشخاص مسلحين ملثمين، وفجأة يخيرونك بين حياتك او نقودك او بين حياتك او سيارتك. كما كان يحدث بالعراق. يقتلون المرء في الشارع امام الناس، ولا يجرؤ أحد على التدخل... ورحت اتنهد وأقول:

ـ " المشكلة يا ابني انه لا توجد دولة ولا يوجد أمن ".. ثم سكتُّ ما فائدة الكلام. إنه لن يفهم ما أقول.. وها هي جولة عمران امامي. استدرت يمينا باتجاه دارس، الخط امامي مفتوح، ومن خلفي لا أثر للسيارة السوداء، التي كانت تسير بعدنا.. اخيراً تنفست الصعداء، واخذت ابطئ سرعة السيارة، وقبل مروري من امام المستشفى السعودي الألماني رأيت سيارة تاكسي، قادمة من الشارع الفرعي الذي على اليمين.. "يا الله! ماذا لو ان السيارة السوداء التي انعطفت يمينا، تأتي من هناك؟ من ذاك الشارع؟ معناه انهم يعرفون اين سأتجه.. معناه انهم يعرفون بيتي؟ " وصلت والتفت فرأيت السيارة السوداء بالفعل، واقفة، ثم تحركت باتجاهي، فامترطت دواخلي واجتاحني رعب مضاعف، انهم قادمون من اجل النقود لا محالة.. ولن يتركوني حتى يأخذوها.. وأخذت أفكر بالمبلغ الذي سأخسره، وماذا سيقول عني الناس؟ واخذت أفكر في كلام الناس، فانبرى صوت غليظ وغاضب في داخلي " الناس! انت الآن تفكر بالناس؟ طز بالناس وطز بالفلوس.. أهم شيء راسك وراس اولادك.. اية ناس؟ اتفكر بالناس؟ أرأيتم الغبي! " وسكت الصوت الغاضب واخذت اهدئ نفسي.. ما العمل الآن؟ الآن انت ستصل جولة الجمنه.. نعم.. هناك ستُبلغ النقطة الأمنية.. يا الله! بالفعل، كيف نسيت النقطة الأمنية التي في الجمنة؟ خلاص انحلت المشكلة. ورحت اهز راسي موافقا على الفكرة.

 وصلت جولة الجمنه. واستدرت يساراً، شارع المطار، و... يا إلهي اين النقطة؟

كنت قد نسيت ان النقطة الأمنية في الجهة الأخرى، يفصلنا عنها شارعان يتجهان تحت الجسر ذهابا واياباً...

 وإذا أوقفت السيارة وناديت عليهم فمن المستحيل ان يسمعوا شيء، ومن غير الممكن ـ حتى لو سمعوا ـ ان يدركوني أو ينقذوني.. يا الله ما هذا؟

  لم يبق امامي إلا ان أحاول بأقصى سرعة، أن أصل لأقرب محل صرافة. واصلت القيادة.. وانا اعلم انه ما من محل صرافة في الجهة التي انا فيها، إلا بعد السوق.. نظرت للخلف، السيارة السوداء تقترب مني أكثر وأكثر.. وسائقها قد اخرج يده ويشير لي بحركة واضحة أن اوقف السيارة، لكني قلت ربما انه يريد أن يتجاوزني ـ كنت ما زلت اتعشم أن أكون مخطئاً حتى تلك اللحظة ـ فأخذت اتجه إلى اليمين قليلاً قليلاً. وبدلا من ان يتجاوزني ويسير مستقيماً ـ كما هو العشم ـ اخذ يسير خلفي يمينا، أبطأت السرعة ففعل مثلي، أصبحت في اقصى اليمين واسير ببطيء شديد وكأنني أوشك ان اتوقف، وكذلك كانت السيارة السوداء توشك ان تتوقف، عندها تأكدت بما لا يدع مجالا للشك انهم يريدون المال الذي بحوزتي..


 ما ان توقفت سيارتي حتى رأيت السائق قد خرج يمشي باتجاهي.. بهذه السرعة! انهم هكذا اللصوص ليس لديهم وقت يضيعونه، ولا يعطونك وقت للتفكير.. لكنه لا يحمل سلاحاً.. وقبل ان يصل إلى جوار سيارتي ومن غير ان أفكر كثيراً، دست على الوقود، وانطلقت بسرعة جنونية، وانا أسال نفسي: إلى اين ستهرب يا عباس؟ أمامك سوق دارس ذو الزحمة الخانقة! وإذ بزوجتي تصيح

ـ "انتبه.. الشيبة! الشيبة!" كدت ادهس رجلا كبيراً في السن، لم أدر من أين ظهر؟ هربت منه بصعوبة، وبقيت للحظات غير مصدق انني كنت سأقتل شخصاً للتو، ولم يوقظني من صدمتي إلا صراخ الأطفال، بسبب حركة الهروب الحادة التي تسببت في اندفاعهم إلى الأمام ثم إلى الجنب وتصادمت رؤوسهم ببعضهم البعض وبالزجاج.. واخذ بعضهم يبكي.. لم التفت لصراخهم...فقدت اعصابي تماماً. صحت بكل قوتي:

ـ " أصااااااه ولا نأمة ".. فهمدوا جميعا.. وبعد ان تأكدت ان الشيبة لم يصب بأذى؛ اخذت في لعنه.. لعنته ولعنت شيبته، حتى سابع جد. وهدأت قليلاً، ثم نظرت خلفي.. 

   ما زالت السيارة السوداء الملعونة تتبعني، بنفس السرعة التي اسير بها، وهو الآن يشير بالأضواء مدعياً انه يريد أن يتجاوزني، لكنني عرفت خطته.. ما ان يسبقني حتى يقف امامي ويعيق حركتي تماما، وعندها ينزل ومن معه وهم يشهرون أسلحتهم لأخذ المال بكل سهولة، عليهم اللعنة! لم يكن الأمر يحتاج إلى تفكير، لن أسمح له بالتجاوز، وكلما أخذ يميل باتجاه اليمين ليتجاوزني قمت بزيادة السرعة أكثر، حتى ظننت ان سيارتي توشك على الطيران.

   وما هي إلا ثوان حتى كنت امام سوق دارس المكتظ بالناس والسيارات، فتوقفت كباقي السيارات، ووقفت السيارة التي تطاردني خلفي، وترجل سائقها على الفور من سيارته، واقبل نحوي.. انتهى الأمر.. سيقتلونني ويأخذون النقود، لقد اتعبتهم كثيراً...لكن.. لا، لا اعتقد ان احداً سيُقدم على مثل هذا الأمر في هذا المكان المزدحم.. كيف سيستطيع الهرب؟! 

  اخذت أحدث نفسي وانا انتظر وصول الرجل ببالغ الهلع. وانظر امامي علّ السيارات تتحرك... وانتفضت حين سمعت صوت طرقات على النافذة، التفتّ، فرأيت الرجل يشير لي ان أُنزل الزجاج، فأشرت بيدي اليمنى بحركة استفهامية "لماذا؟" ونظرت امامي فوجدت أن السيارة التي امامي قد تحركت خمسة أمتار، قمت بالتقدم خمسة أمتار أخرى، فتبعني الملعون..

  ترك سيارته واقفة هناك وها هو يمشي خلفي، ما ان توقفت، حتى وجدته عند النافذة، يشير لي مرة أخرى ان انزل الزجاج.. ألم يمل بعد؟! واعدت عليه حركة اليد الاستفهامية ذاتها، فسمعته يقول:

ـ " افتح سعليك[1]!" وهو يبتسم.

ـ " لا يا عباس.. لا تصدقه!" قالت زوجتي.

ـ " اصه انتِ!".. وأنزلت الزجاج قليلا، وقلت بصوت مبهوت:

ـ " ايش تشتي[2]؟" وانا انظر اليه بعيون شاخصة، كمن ينظر إلى الموت.

ـ " يا اخي.. تعبتنا معاك، مالك خائف؟" اجبته وقد هربت كل الكلمات من رأسي:

ـ " ايش تشتي؟".. مد يده إلى جيب سترته، وأخرج ورقة وأخذ يقرأ منها:

ـ " انت عباس احمد حسن؟ "

ـ "نعم"

ـ "هذا الشيك لك؟"

 لم أكن ساعتها انظر لما في يده، كان ما زال مغشيا عليّ من الخوف، وما أن سمعته يقول ذلك حتى تدحرجت الصخرة التي كانت على صدري فجأة.. انزلت الزجاج حتى أستطيع تناول الشيك، واخذت انظر اليه بعيون زائغة.. كان الشيك ذو المليون ريال الذي لم اصرفه. يبدو انني اوقعته في البنك وانا اخرج البطاقة.

ـ " نعم.. شكراً يا اخي.. ألف شكر.. "

ولم أدر ماذا أقول بعدها.. بالتأكيد سيكون قد أدرك انني ظننتهم لصوص. نظر اليّ وهو يشعر بالزهو ويقول:

ـ " اكيد ظننتنا سرق. نحن نتبع أمن البنك، لكننا نلبس لبس مدني للتمويه "

ـ " والله العظيم انكم ارعبتموني، قسماً بالله!".

 ما زال مبتسما وهو يقول:

 " الله يفتح عليك.. خدمات؟"... وانطلق راجعا إلى سيارته.. والتفت فوجدت السيارات التي امامي قد تقدمت حوالي عشرين مترا...بدأت التحرك وانا اشعر ان ركبي ما زالت ترتعش، احسست انني غير قادر على التحكم في كابح السيارة ...

ـ " الن تعطيه شيء؟ " قالت زوجتي بعد ان انصرف الرجل. فانتبهت لذلك:

ـ " هاتِ عشرين الفاً من الكيس.. بسرعة!"

ـ "عشرون ألف؟ أليست كثير!"

 " صدقت.. هاتي عشرة ألف! عُدّي عشرة، سريع!" 

كانت السيارة السوداء ما تزال تمشي خلفي، وكنا قد تجاوزنا الزحمة.

  بعد السوق أخرجت يدي واشرت له أن يركن يمينا، وركنت قبله، وقبل ان ينزل كنت انا بجوار سيارته.. شكرته وشكرت الذي بجواره، مددت يدي، وقلت له الجملة المعروفة:

ـ "هذي حق القات.. والله ما ترجع!"

وقبل ان يبدي اية معارضة، كنت قد انصرفت إلى سيارتي.. وانا لا اصدق كل ما حدث، وعدت سيارتي وانا اشعر كمن تطهر من ذنوبه، يا الله لك الحمد!

انتظرت قليلاً.. قالت زوجتي

ـ " اعطيتهم الفلوس؟ "

ـ " نعم"

ـ " ولمن انت منتظر الآن؟"

ـ " دعيهم يمضون.. ما زلت محتاراً كيف عرفوا اني سأتجه يميناً فاتجهوا قبلي وانتظروني!"

ـ " صحيح والله، كيف عرفوا؟"

انتظرت دقيقة ودقيقة أخرى.. وتذكرت كلام مدير الفرع "لا تتوقف في أي مكان" ...التوقف بصحبة ما معي من مال مجازفة كبيرة..  ومع انقضاء الدقيقة الثالثة أخذت بذور الشك تكبر سريعا في قلبي.. خمس دقائق، لم يتحركوا من مكانهم، عشر دقائق.. يا الله! عاد اليّ القلق من جديد، لكني قلت ربما كانوا ينتظرون احداً، او ربما أن أحدهم ذهب إلى السوق يشتري قات... ما إن تحركت، حتى تحركت السيارة السوداء بعدي...

 

          بقلم يوسف أمين

اقرأ ايضأ :

 من الطفل الذي امسكته بيدي؟

هل تنتقم أم تسامح؟




[1]سعليكلا تخف

 

[2]ايش تشتيماذا تريد

 





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من الطفل الذي امسكته بيدي؟

كنا جلوس انا وزوجتي واطفالي في الصالة ـ التي تتوسط البيت، في الدور الثاني ـ وكان الوقت قرابة الخامسة عصراً.. مندمجين، أنا وزوجتي، في مشاهدة فيلم امريكي على وشك الانتهاء.. بينما كان محمد ابن التاسعة وأمين ابن السابعة.. كانا مشغولين بلعبة على الايباد..  وبينما نحن كذلك إذ لمحت بطرف عيني اليسرى طفل صغير، في حوالي الرابعة من العمر، قادما من باب الشقة ـ الذي يبقى مفتوحاً عادةًـ ومباشرةً استدار يمينا ودخل غرفة النوم.  كان مستعجلا يريد إحضار شيء أو إدراك شيء ما..   والعجيب أننا لم نَعره اهتماما. لم نلتفت إليه حتى..  مرت برهة من الزمن، بعدها خالجني شعور ان الطفل قد تأخر في الداخل، لكن هذا الشعور تلاشى بسرعة، فقد انشغلت بمتابعة نهاية الفيلم التي كانت مثيرة للغاية.  وما ان انتهينا من مشاهدة الفلم، وأخذت اتمطى كالعادة؛ إذ بزوجتي تخاطب ابني الكبير:  ـ ادخل فانظر من دخل الغرفة.. لا تدعه يوقظ إبراهيم!   تذكرت عندها أن الطفل لم يخرج بعد ..!   كان إبراهيم ذو الثلاثة أعوام نائما، وكنا نظن أن الطفل الذي دخل هو أحد أطفال الجيران الصغار أو أحد أبناء أخ...

هل تنتقم ام تسامح؟

    قال الطبيب النفسي، وهو يبتسم ابتسامة هادئة: ـ خالد..! اريدك ان تحكي لي كل شيء، بالتفصيل..! ـ لا استطيع ان اتذكر كل شيء يا دكتور. ـ حسنا احكي لي ما تستطيع تذكره.! قال خالد: وصلنا اخيراً الى قمة الجبل، لم اكن اصدق اني سأصل إلى هذا الارتفاع. منذ ساعة ونصف ونحن نسير. نتوقف للحظات فقط، نلتقط أنفاسنا، ثم نعاود السير. صديقي الضخم والعملاق عباس هو الوحيد الذي وافق على مرافقتي ، او بالاصح هو من أجمع البقية على أن يرافقني.  قال لي صديقي محمد بان عباس هو الوحيد الذي يستمتع بالصعود الى اعلى الجبل ، وهو من يأخذ الزملاء الجدد ويريهم هذه القمة.     انا يا دكتور اعمل في الكويت، جئت قبل أسبوع. جئت لزيارة أصدقائي؛ لأنني منذ أن تخرجت وحصلت على عمل في الكويت لم ألتق بأحد.   قال الدكتور: ـ اذاً فقد صعدت مع عباس الى قمة الجبل، أهذا ما كنت تقوله؟  ـ نعم. في البداية لم اكن اريد الصعود، لكنني عندما سمعت صديقي العزيز محمد يقول انها شاهقة جداً، ولا احد يستطيع ان يصمد مع عباس في القمة أكثر من عشر دقائق، الكل ينهار.     دفعني ذلك إلى قبول الت...

انقذني يا أخي : مستوحاة من احداث حقيقية

قبل اكثر من 30 عاما، وفي قرية من قرى محافظة تعز . كان الوقت ظهراً، عندما احتشد ابناء القرية؛ يشيعون جنازة امرأة شابة ، لم تتجاوز العشرين من عمرها. حتى إذا وصل المشيعون إلى المجنة، وضعوا النعش بهدوء أمام الباب، وابتعدوا قليلاً. والمجنة مكان يشبه المغارة، تتسع لاكثر من ميت.   اقترب علي مقبل، اخو الفتاة الميتة، و كشف عن وجهها، وأخذ ينظر اليها بتجلد ، نظرة أخيرة. ثم قبّلها على جبهتها وحملها ووضعها بجوار عظام أمه وأبيه في  المجنة .    " بجوارك أبي وأمي، لن تستوحشي ..!"  كان يكلمها كمن هو موقن انها تسمع كلامه وكان موليا ظهره لكل من حضر الدفن، يحاول ان يبدو متجلداً. لكن دمعة متمردة هربت من عينه على حين بغته، فانسحب من داخل المجنة. وبدأ يبني بابها وأقبل الكل يساعده وما أن انتهى حتى التف الناس من حوله يعزوه، ويوصوه بالصبر والاحتساب، ثم انصرفوا به راجعين الى القرية وهم يواسوه طوال الطريق.   وفي العصر أقبل الأخ يرش قليلا من الماء على باب المجنة كي يتماسك الاسمنت مع الحجارة، ثم قرأ الفاتحة وذهب ... كان الحزن قد هده، ومن خلفه كان السكون القاتل الذي يب...