التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الغيرة القاتلة

 




في حارة من حواري صنعاء، عندما كانت الساعة تقترب من الواحدة ظهراً، تعالت صرخات طفلان يستنجدان. ولد في الحادية عشر من عمره واخته في التاسعة. كانا يطلان برأسيهما من خلال قضبان حديدية لنافذة البيت المطلة على الشارع، متشبثان بالقضبان يصرخان:

ـ أنقذونا.. أنقذونا!


طفلان جميلان، بعيون زرقاء تغطيها الدموع!


   في البدء لم يستطع أحد ـ من المارة او الجيران الذين اقتربوا من الطفلين ـ ان يفهم شيئا، لاختلاط الصراخ بالبكاء، ثم أخيرا أمكنهم ان يفهموا هاتين الكلمتين" امنا جنت، أنقذونا.. آآآآآ!" 


   اخذ أحد الجيران يهدئهم، ويخاطبهما باسميهما " سامي.. سما.. اشرحا لي ما الذي حدث؟ لماذا تصرخان؟" وقبل ان يقولا كلمة واحدة؛ تفاجئ الجميع بصوت يأتي من النافذة الأخرى للبيت، كان الصوت انثوياً غاضباً:

ـ من يقترب من ابنائي سأقتله، ومن يقترب من باب بيتي سأقتله!

ولقّمت البندقية التي كانت تحملها، وفتحت الأمان، فتدافع الناس متراجعين للخلف!


كانت المرأة تحدثهم من الغرفة الأخرى، يفصل بينها وبين غرفة الاطفال صالة تؤدي الى جميع الغرف كما تؤدي الى الباب الرئيسي للبيت الذي كان مطلاً على الشارع.

    بعد ان أصبح المتجمهرون على مسافة بعيدة من النافذة؛ اخذوا يحاولون مخاطبة المرأة وتهدئتها:

ـ صلِّ على النبي يا امرأة! لماذا تخيفين اطفالك! 

ـ لا أحد يتدخل بيني وبين اطفالي! اذهبوا الى شؤونكم!


  بقي الناس قرابة عشر دقائق يحاولون تهدئتها وتهدئة الأطفال من بعيد، لكن بلا جدوى، وخلالها كان أحدهم قد اتصل بالشرطة، وبالفعل وصل طقم به خمسة عساكر مسلحين، لكنهم لم يجرؤا على التقدم لكسر الباب، فكما يبدو للجميع بان المرأة قد فقدت عقلها، كما انه لا توجد ضرورة لاستخدام السلاح ضدها! بقوا حائرين!


   اقترح أحد الجيران الذي كان يحاول ان يهدئ الأطفال؛ والذي كما يبدو بانه يعرف تفاصيل البيت؛ بان يدخل أحد من الخلف، من شباك الحمام؛ ويباغت المرأة ويأخذ منها السلاح، بينما يعمل الباقين على الهائها.





      وافق الجميع؛ لكن لا أحد يريد ان يخاطر ويدخل.. فاضطر صاحب الفكرة ان يدخل بنفسه.

      كانت هناك نافذة من الخلف تطل على الحمام مباشرة، ومن حسن الحظ انها كانت مفتوحة.


   تسلق الشاب الجدار، ثم نزل من النافذة بخفة واتجه الى الغرفة التي كانت فيها المرأة، وامسكها من الخلف، ثم طلب من رجال الامن ان يدخلوا من حيث دخل حتى يفتحوا الباب.


  دخل رجال الامن واخذوا منها السلاح، واقتادها شرطيان الى السيارة، بينما بقي الضابط المسؤول يسأل الطفلين عما حدث، فاخذ الولد يتكلم بصوت متقطع وهو يبكي وكلتا يديه تفرك عينيه:

ـ نحن كنا نلعب في الصالة، عندما رأينا امنا تركض الى المطبخ ـ واخذ يشير بيده باتجاه المطبخ ـ كانت ممسكة بسامح، اخونا الصغير، كان سامح يصرخ، فتبعناها الى باب المطبخ، ورأيناها وهي تأخذ السكين وتذبحه ـ وأشار بيده اليمنى ومررها على رقبته ـ امنا ذبحت سامح.. ونحن هربنا الى الغرفة وأغلقنا الباب. 


   ثم أجهش بالبكاء، ولم يعد أحد يفهم ماذا يقول!


 لم يصدق أحد ما يقوله الطفل، الا عندما ظهر أحد رجال الامن من الغرفة التي كانت فيها المرأة وهو يحمل الطفل المذبوح ملفوفا في سجادة، والدم مازال يقطر منها ... وهو يقول:

ـ وجدته تحت السرير!


اخذ رجال الامن المرأة الى قسم الشرطة للتحقيق معها، وطلبوا من عاقل الحارة ان يهتم بالأطفال حتى يتم التواصل مع ابيهم.


    قبل هذه الحادثة المشؤومة بساعتين؛ كانت المرأة تراسل زوجها الذي كان يعمل في المملكة العربية السعودية، عبر تطبيق الواتساب.


    أخبرها زوجها بانه سيعود قريباً الى اليمن، ورغم فرحتها بعودته؛ الا انها تفاجأت من الخبر، اذ انه أخبرها قبل أسبوع بان اجازته السنوية لا تزال بعد شهرين.. 


    فسألته كيف استطاع ان يُقدِّم موعد اجازته؟ اجابها بان الشركة منحت اجازات بدون راتب لمن يريد؛ بهدف تقليص الانفاق بسبب تراجع الدخل، وانه طلب إجازة بدون راتب لمدة شهر فتصبح مدة اجازته الكلية شهرين.. فسألته عن السبب في فعل ذلك؟ قال لها بانه مشتاق لها ولأولاده، وانه يريد ان يقضي معها أكبر وقت ممكن، وأخبرها بانه اشترى لها سلسلة ذهب، وأرسل لها بالصور، لكن المرأة فزعت من هذا التصرف!


     هل ينوي ان يتزوج عليها، بدأت المرأة توسوس، لم تتعود بان يشتري لها ذهبا هكذا بلا سبب، واخذت تسأله:" ما سبب كل هذا؟ لا تفكر بان تتزوج عليّ، لن ترضيني مجوهرات الدنيا!"


      لم يكن الرجل ينوي ان يتزوج على زوجته، فالرجل لا يحب زوجته فقط بل يعشقها، ليس فقط لما كانت تتمتع به من جمال الوجه وانوثة الجسد، بل لقصة الحب التي نشأت بينهما والتي انتهت بالزواج؛ لكن الفكرة التي اوحت له بها قد اعجبته، فرغب في ممازحتها. أراد ان ينظر الى اين ستصل هذه المرأة بغيرتها.


    قال لها:" بالفعل انا اريد ان اتزوج، لكن ليكن في علمك أنك ستبقين حبي الأول وحبي الأخير، ولك كامل حقوقك..."واخذ يسترسل في كلامه.


     لم تتعود المرأة من زوجها ان يمزح معها في هذه الأمور، قالت له بانها ستقتله ان فكر بالأمر، كان يعلم انها تمزح، ولذلك تمادى في مزاحه، واخذ يعيد ويزيد في نفس الموضوع ثم قال لها "سأخبرك بكل شيء عندما أصل".


   لم يخبرها انه سيصل بعد عدة ساعات، وانه كان يدردش معها من المطار، والاهم من ذلك لم يخبرها انه كان يمزح معها، بل أنهي الدردشة معها فجأة بمجرد سماعه صوت النداء بالتوجه إلى الطائرة! 


    كان يمزح معها، لكن المرأة اقتنعت بانه لا يمزح، صدقته تماماً، فجن جنونها، وقامت من فورها وجمعت كل أوراقه المهمة، بصائره وديونه عند الناس، واحرقتها، ثم صورتها وارسلتها اليه!

      لكنها لم تشف غليلها، لا ليس بعد! فقامت، وقد فقدت عقلها تماماً، واخذت تبحث عن شيء آخر، فلم تجد غير طفلها الرضيع الذي كان يبكي بجوارها!


    اخذته الى المطبخ، وهناك، فوق حوض غسيل الصحون، امسكت برقبته من الخلف، ومررت السكين على أوردته؛ فاندفع الدم كأنه نافورة من رقبته. جرت به الى الغرفة، وضعته على سجادة الصلاة، وقامت تبحث عن الهاتف، تريد تصوير الرضيع المذبوح وارسال الصور الى زوجها!

    في تلك اللحظة سمعت صراخ أطفال يأتي من الشارع، لم تهتم لهذا الصراخ، استمرت تبحث عن الهاتف، وفجأة تذكرت بأن لديها أطفال، سامي وسما! أيكونا قد شاهداها؟! 


    طوت الطفل في السجادة سريعاً والقت به تحت السرير. واتجهت الى النافذة، فوجدت الناس يتجهون إلى النافذة المطلة من الغرفة الأخرى المواجهة للشارع، وصراخ الطفلين لا يتوقف، اتجهت إلى الغرفة الأخرى لكي تسكتهما.. لكنها وجدتها مغلقة، وعبثا حاولت ان تفتح الغرفة بالقوة، فلم تستطع، حاولت ان تهدأ وتفكر، فأدركت ان الناس سيهجمون عليها في اية لحظة؛ ما إن يعرفوا بما فعلت.. يجب ان تدافع عن نفسها، عادت إلى غرفتها واخذت البندقية من فوق دولاب الملابس، واتجهت الى النافذة وبدأت تهدد الناس بعدم الاقتراب من طفليها وعدم الاقتراب من الباب!


   جُن الأب حالما شاهد طفله الرضيع مذبوحاً. واخذ يهيم على وجهه في شوارع صنعاء.


  وبعد شهرين من هذه الحادثة، حكمت المحكمة على الام بالسجن ثمان سنوات، بعد ان اقرت الأم بجرمها. 


   وفي الشارع القريب من المحكمة، كان يسير طفلان، عيناهما زرقاء، ثيابهما متسخة ـ ولد واخته ـ اقتربا من نافذة سيارة فارهة، توقفت للتو، يوحي شكلها الجميل بان صاحبها غني؛ ومدّا ايديهما، قال الولد:

ـ لله يا عم! صدقة لله!

بينما بقيت اخته صامتة ويدها ممدودة!


اقرأ ايضاً :

من الطفل الذي امسكته بيدي؟


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من الطفل الذي امسكته بيدي؟

كنا جلوس انا وزوجتي واطفالي في الصالة ـ التي تتوسط البيت، في الدور الثاني ـ وكان الوقت قرابة الخامسة عصراً.. مندمجين، أنا وزوجتي، في مشاهدة فيلم امريكي على وشك الانتهاء.. بينما كان محمد ابن التاسعة وأمين ابن السابعة.. كانا مشغولين بلعبة على الايباد..  وبينما نحن كذلك إذ لمحت بطرف عيني اليسرى طفل صغير، في حوالي الرابعة من العمر، قادما من باب الشقة ـ الذي يبقى مفتوحاً عادةًـ ومباشرةً استدار يمينا ودخل غرفة النوم.  كان مستعجلا يريد إحضار شيء أو إدراك شيء ما..   والعجيب أننا لم نَعره اهتماما. لم نلتفت إليه حتى..  مرت برهة من الزمن، بعدها خالجني شعور ان الطفل قد تأخر في الداخل، لكن هذا الشعور تلاشى بسرعة، فقد انشغلت بمتابعة نهاية الفيلم التي كانت مثيرة للغاية.  وما ان انتهينا من مشاهدة الفلم، وأخذت اتمطى كالعادة؛ إذ بزوجتي تخاطب ابني الكبير:  ـ ادخل فانظر من دخل الغرفة.. لا تدعه يوقظ إبراهيم!   تذكرت عندها أن الطفل لم يخرج بعد ..!   كان إبراهيم ذو الثلاثة أعوام نائما، وكنا نظن أن الطفل الذي دخل هو أحد أطفال الجيران الصغار أو أحد أبناء أخ...

هل تنتقم ام تسامح؟

    قال الطبيب النفسي، وهو يبتسم ابتسامة هادئة: ـ خالد..! اريدك ان تحكي لي كل شيء، بالتفصيل..! ـ لا استطيع ان اتذكر كل شيء يا دكتور. ـ حسنا احكي لي ما تستطيع تذكره.! قال خالد: وصلنا اخيراً الى قمة الجبل، لم اكن اصدق اني سأصل إلى هذا الارتفاع. منذ ساعة ونصف ونحن نسير. نتوقف للحظات فقط، نلتقط أنفاسنا، ثم نعاود السير. صديقي الضخم والعملاق عباس هو الوحيد الذي وافق على مرافقتي ، او بالاصح هو من أجمع البقية على أن يرافقني.  قال لي صديقي محمد بان عباس هو الوحيد الذي يستمتع بالصعود الى اعلى الجبل ، وهو من يأخذ الزملاء الجدد ويريهم هذه القمة.     انا يا دكتور اعمل في الكويت، جئت قبل أسبوع. جئت لزيارة أصدقائي؛ لأنني منذ أن تخرجت وحصلت على عمل في الكويت لم ألتق بأحد.   قال الدكتور: ـ اذاً فقد صعدت مع عباس الى قمة الجبل، أهذا ما كنت تقوله؟  ـ نعم. في البداية لم اكن اريد الصعود، لكنني عندما سمعت صديقي العزيز محمد يقول انها شاهقة جداً، ولا احد يستطيع ان يصمد مع عباس في القمة أكثر من عشر دقائق، الكل ينهار.     دفعني ذلك إلى قبول الت...

انقذني يا أخي : مستوحاة من احداث حقيقية

قبل اكثر من 30 عاما، وفي قرية من قرى محافظة تعز . كان الوقت ظهراً، عندما احتشد ابناء القرية؛ يشيعون جنازة امرأة شابة ، لم تتجاوز العشرين من عمرها. حتى إذا وصل المشيعون إلى المجنة، وضعوا النعش بهدوء أمام الباب، وابتعدوا قليلاً. والمجنة مكان يشبه المغارة، تتسع لاكثر من ميت.   اقترب علي مقبل، اخو الفتاة الميتة، و كشف عن وجهها، وأخذ ينظر اليها بتجلد ، نظرة أخيرة. ثم قبّلها على جبهتها وحملها ووضعها بجوار عظام أمه وأبيه في  المجنة .    " بجوارك أبي وأمي، لن تستوحشي ..!"  كان يكلمها كمن هو موقن انها تسمع كلامه وكان موليا ظهره لكل من حضر الدفن، يحاول ان يبدو متجلداً. لكن دمعة متمردة هربت من عينه على حين بغته، فانسحب من داخل المجنة. وبدأ يبني بابها وأقبل الكل يساعده وما أن انتهى حتى التف الناس من حوله يعزوه، ويوصوه بالصبر والاحتساب، ثم انصرفوا به راجعين الى القرية وهم يواسوه طوال الطريق.   وفي العصر أقبل الأخ يرش قليلا من الماء على باب المجنة كي يتماسك الاسمنت مع الحجارة، ثم قرأ الفاتحة وذهب ... كان الحزن قد هده، ومن خلفه كان السكون القاتل الذي يب...

الكل واحد

  بالأمس سمعت لسادغورو ، وكل مرة استمع لهذا الرجل اعي شيء جديد. بدأ محاضرته بمقولة لابن الرومي، تتكلم عن المحبة ، عن مرحلة او حالة وجدانية ، يعيش فيها المرء بالحب وللحب ويشع حباً.  لكن سادغور قال بان ذلك ليس هو الهدف، هذه النشوة والمتعة، التي يصل اليها المتنور او العارف، ليست هي الهدف بل هي طريق؛ للوصول الى الهدف..  طريق ربما يكون ممتعا ، وربما لشدة متعته ينسيك ويشغلك عن الهدف، يجب ان لا تنسى الهدف ، حيث لا متعة ، حيث لا ارتباط بالماديات ، والأفكار ، حيث يستوي عندك الممتع بـ المفجع ، حيث لا أفكار تؤرقك ولا نشوة تفرحك، حيث لا يوجد شيء اسمه انا وانت ، حيث ترتبط بالمطلق ، حيث الكل واحد..!

مطاردة : قصة اب مع اسرته في سيارة

  الساعة حوالي العاشرة صباحاً، وانا في بنك اليمن الدولي ـ فرع الحصبة ـ حاملاً معي أربعة شيكات، موقّعة جاهزة، ينقصها توقيع مدير الفرع.  كنت أتوقع ان يقابلني بالرفض؛ نظرا لان المبلغ كبير نوعاً ما، أربعة ملايين.. لكنني فوجئت بتعاونه.. وافق على صرف ثلاثة شيكات من الأربعة. بصراحة لم أتوقع منه أكثر من ذلك.  شكرته على تعاونه معي، لكنني وقبل ان اخرج من مكتبه تذكرت حجم النقود التي سأحملها، فعدت اليه ارجوه ان تكون فئة العملة النقدية من ذوات الألف ريال، أخبرته ان وضع البلاد غير آمن وان مثل هذا المبلغ ـ إذا ما كانت الفئة النقدية أقل من ذلك ـ سيبدو كبيراً وملفتاً داخل الكيس.. لكنه اعتذر: ـ" ثُلث المبلغ فقط أبو خمسمائة، لا تكن طماع! اعطيناك هذا المبلغ وما عندنا سيولة "  ـ "لكن يا مدير كما تعلم.. سأكون عرضة للخطر وانت خير من يقدر الظروف!" ـ " ولماذا؟ ألم تحضر أحداً معك؟ انت غلطان! هل معك سلاح؟ هل معك آلي او مسدس؟" ـ " لا ".. فقال لي بنبرة جادة تنم عن روح النصيحة: ـ " خذ الفلوس ولا تتوقف في أي مكان! "    عندها تعاظم خوفي، وشعرت بالندم يجتاحني فجأة، لكن...